أشتاق إلى بيتي | شهادة

حيّ سكنيّ مدمّر من القصف الإسرائيليّ، رفح، 19/12/2023 | عبد زقّوت

 

أشتاق إلى أن أعود إلى بيتي. لقد تحوّلت كلّ أفعالي وأقوالي إلى اشتياق طويل ودائم، اشتياق متعدّد. في العادة، أنا شخص بيتوتيّ، وفق الوصف الدارج بين مَنْ يعرفونني؛ لا يعني أنّني لا أغادر بيتي، فأنا أحبّ الخروج، رؤية البحر، المشي الطويل، التنزّه، التسوّق، الجلسات العائليّة الخفيفة، لكنّي كثيرًا ما أشتاق إلى البيت.

في الأيّام العاديّة، الّتي لا حرب فيها، ولا موت... الأيّام العاديّة البسيطة الطبيعيّة الّتي يمكن أيّ إنسان أن يعيشها، والّتي أشتاق إليها أيضًا، كنت أستعجل عودتي إلى بيتي، حتّى وإن كانت الجلسة الّتي أقضي فيها وقتي جميلة. إذا قضيت مشوارًا أو عددًا من المهامّ منذ الصباح، أهتمّ دائمًا بأن أعود في العصر أو في أوقات المساء الأولى إلى البيت، أقلّ ما في الأمر؛ من أجل أن أرتاح خمس دقائق، دون حذائي وملابس الخروج الثقيلة، بثقل اليوم وثقل ما فيه من مواقف ووجوه.

مرّ على نزوحي نحو خمسين يومًا، عشت أكثر من شهر في الحرب في بيتي، بين جدرانه الصغيرة الجميلة؛ الجدران الّتي اخترت لونها بنفسي... 

مرّ على نزوحي نحو خمسين يومًا، عشت أكثر من شهر في الحرب في بيتي، بين جدرانه الصغيرة الجميلة؛ الجدران الّتي اخترت لونها بنفسي، بيضاء ورماديّة، على كراسيّه اللطيفة الخفيفة الّتي ارتحت طويلًا عليها، أقضي الوقت بين مشاهدة الأخبار في التلفاز، أو التقلّب في القنوات العربيّة بحثًا عن مشهد كوميديّ أو دراميّ، يأخذني قليلًا من صوت القذائف المتواصلة في الخارج، وانفجارات الصواريخ الّتي لا تتوقّف. أستحمّ يوميًّا، وأشحن هاتفي، أتواصل مع كلّ مَنْ لي خارج غزّة وداخلها، أطمئنّ على الجميع، أسمع صوت ابنتي، أُطَمْئِن زوجتي، أتابع مواقع التواصل.

إنّها أفعال طبيعيّة لأيّ إنسان في يومه العاديّ، لكنّها لم تكن عاديّة في الحرب، كانت شيئًا أكثر من عاديّ؛ شيئًا خارقًا للطبيعة، في مدينة بلا كهرباء، وبلا مياه دائمة. كنت أدرك أنّ هذه الرفاهيّات القليلة لن تدومَ طويلًا، وأنّ الساعة يتقاطر منها الرمل حبّة حبّة، وصولًا إلى إعلان نهاية الوقت؛ ولذلك قلت لأهلي: "قريبًا ستكونون مثلَ كلّ الناس، لن يبقى كلّ شيء"، وليتني لم أقل، وليته لم يحدث.

اضطررنا إلى الهرب من هول القذائف الّتي ضربتها المدفعيّة، تكثّف القصف بشكل مفاجئ، نُسِف بيت في أوّل الشارع، واحترق آخر في منتصفه، ضربوا قنابل دخانيّة، جعلت كلّ مَنْ في البيت يختنق. كانت اللحظة الحاسمة تقترب، أمّي تبكي، والدي ينهار، جبل العناد الّذي تمسّك به منذ بدء الحرب، بعدم الخروج من المنزل، وكأنّه كان يتذكّر والده حين خرج من قرية حمامة عام ثمانية وأربعين، ويرفض تكرار موقفه. الأطفال الصغار يصرخون، النساء في خوف طويل، ونحن الرجال في توهان مرعب، لا ندري ما نفعل.

صدر القرار، لنهرب. قرّرنا المخاطرة في حياتنا كي نهرب سريعًا، فقد تكون القذيفة التالية فوقنا، وقد نحترق مثل غيرنا من هذا الموت العشوائيّ. وبصعوبة كبيرة، وصلنا إلى منطقة أخرى، اعتقدنا أنّها أخفّ وأقلّ موتًا، لكنّها ليست كذلك في غزّة؛ فليس فيها موت أقلّ أو أخفّ، في غزّة الموت هو العنوان، له أشكال وألوان وأصوات عديدة، لكنّه يبقى موتًا.

في اليوم التالي، قرّرت النزوح إلى الجنوب، إلى مدينة رفح، حيث لي من أقارب قد يستضيفونني، تركت أهلي، والدي ووالدتي وأشقّائي في غزّة لعنادهم وإصرارهم على البقاء. تلك اللحظة كانت لحظة غيابي عن البيت؛ اللحظة الّتي استمرّت طويلًا، ولا أعرف متى ستنتهي، اللحظة الّتي أحلم بنهايتها، أنام وأصحو، وأنا أنتظر أن تكون سرابًا.

أعيش في بيت؛ في غرفة، بين جدران أربعة، وهذا أفضل من كثيرين لا يجدون سوى خيمة في البرد وأيّام الأربعينيّة القارسة، لكن لا يهمّني أن تكون خيمة أو بيتًا أو مستشفًى أو مدرسة، بقدر ما يهمّني أن أعود إلى بيتي. قلت لأحدهم: أتمنّى لحظة واحدة، أعود فيها إلى بيتي في غزّة، أستلقي على سريري لخمس دقائق. آآآه، تلك الدقائق القليلة الّتي أسرقها بعد عودتي من العمل عصر كلّ يوم، إنّها دقائق من الجنّة.

أنام وأنا أفكّر في البيت، أصحو وأتذكّر تفاصيله، أتوقّع أنّني في لحظة سأفتح عيني لأنظر إلى سقف غرفتي...

أشتاق إلى بيتي، إلى جدرانه، الجميلة البسيطة، إلى الأمان فيه، إلى المكتبة الّتي سعيت منذ أكثر من عامين إلى إضافة ما أستطيع من الكتب إليها. كنت أجلس في المكتبة، أحاول اختيار كتاب جديد، أبدأ بقراءته على الكنبة الحمراء إلى جانب الرفوف، أقلّب ديوانًا لمريد البرغوثي، أقرأ قصيدة، أغلق الكتاب، ثمّ سرعان ما أفتح آخر. أعود إلى الأعمال الكاملة لغسّان كنفاني، أنفض الغبار عنها، وأتذكّر أنّني اشتريتها لنفسي هديّة في عيد ميلادي، قبل نحو تسعة أعوام.

أشتاق إلى البيت، إلى منظر الأشجار المتدلّية في أنحائه، إلى سقايتها، إذا عدت فسأتوقّف عن إهمالها، لن تحتاج زوجتي إلى أن تعطيني درسًا آخر في طريقة العناية بالأشجار، لن تضطرّ مرّة أخرى إلى لومي على عدم تقديم الماء للشجرة سين أو الشجرة صاد. هذا إن ظلّت الأشجار حيّة، ولا أظنّ ذلك.

هذه ليست مجرّد خمسين يومًا، ففيها الكثير من التفاصيل الّتي تَقتل. أنام وأنا أفكّر في البيت، أصحو وأتذكّر تفاصيله، أتوقّع أنّني في لحظة سأفتح عيني لأنظر إلى سقف غرفتي، أغسل وجهي، وأنتقل إلى ماكينة الإسبريسو لأُعِدّ فنجان الصباح، لكن من أين لي بتلك اللحظة الفريدة في الحياة؟

أشتاق إلى البيت، في كلّ يوم آلاف المرّات، أشتاق إليه، أقلّب في أستوديو الصور في الهاتف، أشاهد تفاصيله، أضحك، أتألّم، أحنّ طويلًا إلى تفاصيله، وأُقنع نفسي أنّني سأعود إليه، سينتهي هذا الاشتياق، سأمارس فيه كلّ التفاصيل الّتي كنت أعيشها، لكن بانتباه أكبر، بتركيز أكثر، سأعطي كلّ لحظة ما تستحقّه. لكن هل يعود البيت كما كان؟

لقد سقطت القذائف فوقه، بعض جدرانه تهدّم، نوافذه انتهت، ربّما وقعت المكتبة، والأشجار ماتت. سأعود، لكنّه لن يعود كما كان... أشتاق إليه وسأجعله يعود.

 


 

المقداد جميل مقداد

 

 

 

كاتب وباحث من قطاع غزّة. يكتب النثر والشعر. له العديد من الدراسات والأبحاث في السياسة والعلاقات الدوليّة، وينشط في المجتمع المدنيّ والإعلام الفلسطينيّ.